قال تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ باِلغَدَاةِ و العِشِيِّ يُريدونَ وَجْهَهُ}
صفحة 1 من اصل 1
قال تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ باِلغَدَاةِ و العِشِيِّ يُريدونَ وَجْهَهُ}
بسم الله الرحمن الرحيم
درس {واصبر نفسك}
للشيخ الفقير الى الله تعالى سيدي الباسل رضي الله عنه وأرضاه
قال تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ باِلغَدَاةِ و العِشِيِّ يُريدونَ وَجْهَهُ ولا تعدُ عيْناكَ عنهُمْ تُرِيدُ زينَةَ الحَياةِ الدنيا ولا تُطِعْ مَن أغفلنا قَلبَهُ عَن ذِكْرِنا واتـــــَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أمْرُهُ فُرُطاً} الكهف/28
الحمد لله رب العالمين حمدا ًكثيرا ًطيبا ًمباركا ًفيه، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت مما شئت من شيء بعد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، أنت أهل الثناء وأهل المجد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيـّه من بين خلقه وخليله، سيد العرب والعجم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته أفضل الأمم، الحمد لله الذي أنار الوجود بسيد الوجود.
أما بعد...
هذه الآية العظيمة حددت منهاجا ً للتقرب إلى الله عز وجل، وبدأ الله عز وجل الآية بالأمر بالصبر وحث النفس البشرية على الصبر في سيرها إلى الله سبحانه وتعالى مع أحبابه وأوليائه، وإن صبّرت نفسك معهم أنت منهم، وانظر إلى الهدف والنتيجة { يُريدونَ وَجْهَهُ } أي نعمة ومقام أعلى وأعظم من هذا؟ وعندما يقول الحق: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } أي احبسها مع الذين يدعون ربهم، يقول أهل الله عز وجل في التفسير و قيل الصلوات الخمس، فالغداة تعني الصبح والعشي تعني الظهر وما بعده، وقيل الصبح والعصر، وبعضهم قال أنها الصلاة التي كانوا يصلونها قبل فرض الصلاة وهي ركعتان بالغداة والعشي، قال ابن عطية: (... ويدخل في هذه الآية من يدعوا في غير صلاة، ومن يجمع لمذاكرة علم...).
وقد روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أنه قال: ( لذكر الله بالغداة والعشي أفضل من حطم السيوف في سبيل الله ومن إعطاء المال سحا ) وقيل {يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ } في جميع الأوقات وفي طرفي النهار والمراد بـ (هم) فقراء المؤمنين كعمار بن ياسر وصهيب الرومي وخباب وبلال. روي أن رؤساء الكفرة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ( لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ) وقالوا: ( إن ريح جبابهم تؤذينا ) فنزلت الآية. وروي أنه لما نزلت الآية خرج صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إليهم وجلس بينهم وقال: ( الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه ). وقيل لما نزلت في بيان أهل الصفة وكانوا نحو سبعمائة، ثم وصفهم الله تعالى بالإخلاص فقال: { يُريدونَ وَجْهَهُ } أي معرفة ذاته لا جنة ولا نجاة من نار، { ولا تعدُ عيْناكَ عنهُمْ } أي لا تجاوِزهم بنظرك إلى غيرهم ولا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة، { تُرِيدُ زينَةَ الحَياةِ الدنيا } أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء والدنيا. { ولا تُطِعْ } في تنحية الفقراء عن مجلسك { مَن أغفلنا قَلبَهُ عَن ذِكْرِنا } أي جعلناه غافلا عن الذكر وعن الاستعداد له، كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء عن مجلسك فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقات وفي تنبيه على أن الباعث على ذلك الدعاء غفلة قلبية عن جناب الله سبحانه وتعالى حتى خفي عليه أن الشرف إنما هو بتحلية القلب بالفضائل لا بتحلية الجسد بالملابس والأكل، { واتـــــَّبَعَ هَواهُ } ما تهواه نفسه { وَكانَ أمْرُهُ فُرُطاً} ضياعا ًوهلاكاً وهو من التفريط والتضييع أو من الإفراط والإسراف، فإن الغفلة عن ذكر الله تعالى تؤدي إلى اتباع الهوى الذي يؤدي إلى التباعد عن الحق والصواب. وفي الآية حثٌ على صحبة الفقراء والمكوث معهم، ففي صحبتهم أسرار كبيرة ومواهب غزيرة، إذ المسلم الصادق بصحبة الفقراء السائرين إلى الله عز وجل يكتسب آداب سيره إلى الله عز و جل، ويقع له التهذيب والتأديب حتى يتأهل لحضرة التقريب، فبصحبة هؤلاء القوم تدوم حياة الطريق ويصل العبد إلى معالم الطريق. وعندما يقول الحق: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } قال القشيري: ( ... لم يقل واصبر قلبك لأن قلبه مع الحق تعالى فأمره بصحبة الفقراء جهرا ًبجهر واستخلص قلبه لنفسه سرا ًبسر... ). قال الورتجبي: ( ...اصبر نفسك مع هؤلاء الفقراء العاشقين لجمالي المشتاقين إلى جلالي، الذين هم في جميع الأوقات يسألون متى لقاء وجهي الكريم، ويريدون أن يطيروا بجناح المحبة إلى عالم وصلي حتى يكونوا متسلين بصحبتك عن مقام الوصال، وفي رؤيتهم لك رؤية ذلك الجمال... ). { يُريدونَ وَجْهَهُ } بين أن دعائهم وسؤالهم إنما هو رؤيته ولقاؤه شوقاً إليه ومحبة فيه من غير تعلق بغيره أو شغل بسواه بل همهم الله عز وجل لا غيره، قيل في الإحياء: "مَن يعمل اتقاءً من النار خوفا، أو رغبة في الجنة رجاء، فهو من جملة النيات الصحيحة لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة".
ويقول أحد الصالحين: " الإخلاص ألاّ يريد صاحبه عوضا ًعليه في الدارين" وهذه إشارة لإخلاص الصديقين.
{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } إذا كان ذلك أمر وحث من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم على أن يصبر ويصبّر نفسه مع المؤمنين الصادقين فكيف يكون الحال بنا؟ كيف يجب أن نصبّر أنفسنا مع الله عز وجل وأهل الله عز وجل وأوليائه العظام؟ والشاعر يقول:
والصبر يحمد في المواطن كلها
إلا عليك فإنه لا يُحمَــــــــــــــدُ
النفس هي التي تأبى ذلك، تأبى السير والصبر لله سبحانه وتعالى في بدايتها ولذلك يجب مجاهدتها، لماذا؟ لأن الله عز وجل كما قلنا جعل في هذه الآية منهاجا ًوطريقا ًوغاية ونتيجة فيجب على النفس والعقل أن يدركا شيئاً من هذا الأمر لكي تسير النفس إلى ذلك، ومع أن الصبر مراتب وفي كل المراتب هو خير، فمثلا الصبر على المرض والبلاء والصبر على المصيبة والصبر على الطاعة والصبر على البعد عن المعصية، فكيف بالصبر مع حبيبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وأحبائه على طريق عبادة الله عز وجل ومعرفته ابتغاء وجه الله الكريم؟ فهنا يخاطبنا الله عز وجل بأنه يجب علينا أن نصبّر أنفسنا مع أحبائه لأنه مَن صبر معهم فهو منهم أما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) فكيف بالمصبِّر نفسه على ذلك؟ إياك أن تنازعك نفسك على غير ذلك فإن في ذلك الهلاك لك ولنفسك التي نازعتك، يقول الله عز وجل { إنّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونُ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } الزمر/١۰. والنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: ( الصبر نصف الإيمان ) إذا كان الصابرون بشكل عام يوَفــَّوْنَ أجورهم بغير حساب فكيف بأعظم الصبر وأحبه إلى الله عز وجل وهو في الصبر وتصبير النفس في سيرها لله عز وجل ابتغاء وجهه سبحانه وتعالى؟! كيف ستكون محاسبة الله عز وجل لهم وتوفية أجورهم؟! طبعا نفسك سترفض السير لله عز وجل لأن في ذلك قمع لشهواتها، فهي ستعارض ذلك لأنها لا تدرك عظمة لقاء الله سبحانه وتعالى. إن ما يجب عليك معرفته هو إنها سترفض كل ما يخالف هواها وميلها إلى ما تشتهيه وتلذذ به، ومن هنا وجب على عقلك أن يدرك حقيقة وجودك ولما وجودك في هذا الوجود؟ وأن هذه الآية منهاج لتنفذ هذا الأمر وتعلم حقيقة وجودك، إذا أدرك العقل ذلك فَرَضَ سلطانه على النفس وعندئذ سيسهل عليها أمر السير إلى الله عز وجل مع المجاهدة، وعندئذ سيتذوق القلب حلاوة هذا الحال. ثم يقول الله عز وجل: { مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ باِلغَدَاةِ و العِشِيِّ } كلمة مع { الذينَ } يكفيك بهذا شرفا ًوأي شرف! يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ( المرء مع من أحب) فهكذا كان حال الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، صبّروا نفوسهم في بدايتها وجاهدوها في متابعة الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه وبعدها أصبحت نفوسهم هي تشتاق لذلك. وجعلوا نفوسهم في وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومصداقا ً للحديث الشريف: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا ً لما جئتُ به ) فعندما تسمع هذه الآية { مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ } ألا ترى فيها غاية الجمال وقمة الكمال؟! يدعون من؟؟ ربهم الذي خلقهم وهو أدرى بهم، والدعاء هنا شامل لكل أنواع العبادة، فهم يدعون ويصلون ويلجئون ويطلبون ويسألون ربهم أن يجعلهم له لا لغيره، واعلم أنه لا يكون في هذا الطريق إلا من رضي الله تعالى عنه، إنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي أي يومهم كله ليلهم ونهارهم مع الله عز وجل، لا تفتر ألسنتهم عن ذكره عز وجل، ولا تخرج قلوبهم من حضرته، ويفيض على أرواحهم من فيض تجلياته، فصبّر نفسك كي يصبح حالك كحالهم، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: ( من أحبَّ قوما ً حُشِر معهم ).
اعلم أنه إذا ساقك الله عز وجل إلى قوم يحبهم فهذه علامة على أنه يريدك ويحبك و إلا فإنه سبحانه وتعالى لا يسوق لأحبته إلا من أراد أن يجعله منهم. فهذه بشرى عظيمة من الله عز وجل لك، أفبعد ذلك لا تصبّر نفسك لأجل هذا الأمر العظيم؟؟؟ وانظر... كل ذلك لماذا؟ وماذا يريدون؟ إنهم لا يريدون إلا وجه الله العظيم وهذا أعظم طلب وأعظم سؤال وأعظم دعاء، ولا يطلب ذلك إلا أصحاب الهمم العالية والقلوب الممتلئة حبا ًوشغفا ًبالله عز وجل، فإرادتهم وعزمهم لا تميلان عن ذلك ولا يريدون غير الله عز وجل، فهؤلاء القوم من أعلى فئة من أمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لعلو مطلبهم وفناء أنفسهم بذلك، فهم لا يخطر في قلوبهم سواه سبحانه وتعالى، لا جنة ولا نار ولا غير ذلك، كما كانت تقول العابدة الزاهدة السيدة رابعة العدوية رضي الله تعالى عنها: ( اللهم إن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفا ًمن نارك فأدخلني فيها، وإن كنت أعبدك طمعاً في النظر إلى وجهك الكريم يا كريم فلا تحرمني من ذلك وأكرمني بذلك ). وكان من دعاء الصالحين ( اللهم لا تحرمنا النظر على وجهك
الكريم يا كريم ). والحق عز وجل يقول: { وُجُوهٌ يَوْمئِذٍ ناضِرَةٌ } القيامة/٢٢. وصدق الشاعر حيث قال
فما مقصودهم جنات عدن ولا الحور الحسان ولا الخياما
سوى نظر الجليل وذا مناهم وذلك مقصد القوم الكراما
نعم أحبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إذا كان هؤلاء القوم مقصدهم الله عز وجل أفلا نقصدهم بنفوسنا وعقولنا وقلوبنا وأرواحنا وكل شيء فينا؟ وعلى هذا كما قلنا أن تصبّر نفسك بالمجاهدة وبإدراك العقل لعلو هذا الأمر، نعم يجب أن نجعل أنفسنا تطيع هؤلاء القوم وإلا لكانت طاعته عكس ذلك على الإطلاق، فأنت الأمر بيدك إما أن تسير مع هؤلاء القوم لله عز وجل ومع الله عز وجل وبالله عز وجل وإما أن تسير مع الشيطان وحب الدنيا وشهواتها، أنظر وفكر ثم اختار واعلم أنه ما لم يكن عندك عزم على جمع إرادتك للسير لله عز وجل فإن إرادتك ستكون مشتتة، والإرادة المشتتة لا تأتي بخير. فإذاً هؤلاء يريدون وجهه عز وجل فكيف إرادة الله عز وجل لهم مع العلم أنه من أعظم نعمة أنعمها عليهم أن أقامهم في هذا المقام، فمقامك حيث أقامك، ولكن نقول كيف ستكون إرادة وإقبال الله عز وجل عليهم وإليهم والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: ( مَن تقرّب إلي شبرا ً تقرّبت إليه باعا ًومَن تقرّب إلي باعا ً تقرّبت منه باعا ًومَن أتاني يمشي أتيته هرولة ). إن أعظم نعمة ينعمها الله عز وجل على أهل الجنة أن يكرمهم برؤية وجهه الكريم، فليس هناك نعمة أعظم منها. أحبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم مَن أراد الله عز وجل أرادَه الله عز وجل، ومَن سعى لدخول حضرة الله عز وجل بصدق أدخله الله عز وجل فيها. ويقول الله سبحانه وتعالى: { ولا تعدُ عيْناكَ عنهُمْ تُرِيدُ زينَةَ الحَياةِ الدنيا } أحبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إياك أن تعدُ عيناك عنهم فإن الروح توجد حيث توجد الفكرة، وكم من نظرة كوّنت فكرة؟! تريد زينة الحياة الدنيا إذا كوّنت وحوّلت إرادتك إلى طريق مغايرة يكون فيها هلاكك فإنه لا ينجو من فتنة الدنيا وزينتها إلا المتمسك بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فإن النفس تتزين بزينة الدنيا والله عز وجل يقول: { زُيِّنَ للناسِ حُبُّ الشهواتِ مِنَ النساءِ و البَنين َوالقناطيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذهَبِ والفِضَّةِ والخيلِ المُسَوَّمَةِ والأنعامِ والحَرْثِ ذلكَ مَتَاعُ الحياةِ الدنيا واللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ
والله عز وجل في عدة آيات حذرنا من هذه الدنيا الفانية {وَمَا الحَياةُ الدُّنْيا إلا مَتَاعُ الغُرُورِ} آل عمران/١٨٥، ويقول الله عز وجل أيضا: {إنَّمَا الحياةُ الدُّنيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وزِينَةٌ وتَفَاخُرُ بينَكُم وتكاثُرٌ في الأمْوالِ والأوْلادِ} الحديد/٢۰، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: (حب الدنيا رأس كل خطيئة ) فإن خوف النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم على هذه الأمة من بعده كان مِن تزيُّن الدنيا لأصحابه وأمته وأن يشتغلوا بها وتبعدهم الدنيا عن الدين. فإن عَدَت عيناك مال قلبك إلى ما تعدُ عليه عيناك من زينة الحياة الدنيا ورفضت زينة الحياة الآخرة والقرب من الله عز وجل، والله الدنيا بما فيها من لذة لا تعدل لحظة من لحظات القرب من الله عز وجل ومن حبيبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبدءوا يتذوقوا معنى الآيات لقربهم من الله عز وجل وهو يقول: {وَ إِذَا سَألـَكَ عِبَادِي عَنـِّي فَأِنـِّي قَرِيبٌ} البقرة/ ١٨٦، عاشوا حياة القرب من الله عز وجل التي ليس بعدها حياة.
ودائما قل: "اللهم سيرني كما تحب وليس كما أحب، وإن سيرتني كما أحب فاجعل ما أحب فيما تحب، واجعلني عبدك المحب لك ولحبيبك وأحبابك والطريق المؤدية إلى حبك، وسيرني كما تريد وليس كما أريد، وإن سيرتني كما أريد فاجعل ما أريد فيما تريد يا الله". ويقول الحق تبارك وتعالى: {ولا تُطِعْ مَن أغفلنا قَلبَهُ عَن ذِكْرِنا واتـــــَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أمْرُهُ فُرُطاً}هذا هو الطريق الثاني وهذه الدنيا وسيرك بها فعندما يقول الحق سبحانه وتعالى ولا تطع اعلم أنه لا يأمرك الله إلا بكل خير وما هو مصلحة لك فالقلوب اثنان إما قلب واصل وإما قلب غافل يقول الحق سبحانه وتعالى: { إنًَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ } الكهف/٥٧، إياك أن تطع الغافل عن الله عز وجل فإن أطعته دخلت في دائرته فيجب أن تكون من أشد الناس بعدا ًعن ذلك الغافل وأن لا تنقاد له بوقت من الأوقات أو بحال من الأحوال، فإن الإنسان الغافل بعيد عن الله سبحانه وتعالى، بعيد من رحمته قريب من غضبه، يعيش بهذه الدنيا غارقا بنفسه وشهواته لا يردعه رادع، لا يفكر بالجنة ولا بالنار، همه لذائذ نفسه وإمتاعها كما قال الله تعالى: { إنْ هُم إلا كَالأنعامِ بلْ هُمْ أضلُّ سَبِيلا ً} الفرقان/٤٤، هذا الإنسان الذي بعد عن إنسانيته لأن الإنسانية تكون بالعقل والقلب فإن كان عقله محجوبا ًوقلبه غافل فأين إنسانيته؟! ولذلك فقلبك إما أن يكون روضة من رياض المعرفة ومشرقة فيه شمس الحقيقة وإما أن يكون قلبك البيت الخرب مربض للشيطان وأعوانه، فبمجرد أنه غفل عن ذكر الله سبحانه وتعالى هذا معناه أنه غافل عن الله عز وجل بالكلية، فمَن أحب شيء أكثر من ذكره. إذا هذا الإنسان نفسه غافلة وعقله محجوب وغافل وقلبه غافل وفاسد وروحه فاسدة أيضا وهذا مصداقا ًلقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ( ألا إنّ في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )، إذا الجسد بما يحوي تابع لهذه المضغة، يسير كيف تسير، يكون كيف تكون، وعندما يقول الحق سبحانه وتعالى: { أغفلنا }هذا قمة في المقت الإلهي لأنه علم أن هذا القلب لا يصلح لحضرة الله عز وجل فقال أغفلنا، فهذا الإنسان الذي لا يذكر ولا يتذكر اسم الله سبحانه وتعالى فكيف يكون مع الله عز وجل؟! { واتـــــَّبَعَ هَواهُ } وهذه قمة الجهل والبعد عن الله عز وجل إتباع الهوى، فإنك إذا أتبَعْتَ نفسك هواها قادتك إلى مزالق الشيطان وإلى الفسق والضلال والبعد عن طريق الحق والصواب والهدْي الصحيح، ومن هنا أمرنا الحق عز وجل بعدم اتباع الهوى ووضع على ذلك الأجر العظيم فقال تعالى: { وأمّا مَن خافَ مَقَامَ ربِّهِ ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى` فإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى } النازعات/٤۰-٤١، وأما من لم ينهَ النفس عن الهوى وغرق به فإن جهنم هي المأوى، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) وليس تبعا لما تقرره نفسه أو يقرره لها الشيطان أو يكون الهوى في الدنيا وشهواتها. المَئابِ } آل عمران/١[/b]٤، لا تستبدل هؤلاء القوم بهذه الدنيا الفانية وشهواتها،
{ وَكانَ أمْرُهُ فُرُطاً}ومن يقرر؟ الله عز وجل أن هذا الإنسان البعيد عن كل معنى جميل وأصيل أمره من بدايته إلى نهايته فارط. وماذا نفهم من كلمة { فُرُطاً}؟ { كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةِ أنْكاثاً } النحل/۹٢، فأنت أيها المسلم كيف تطع من أغفل الله عز وجل قلبه عنه وعن ذكره ومتبع لهواه ونفسه وشيطانه وكان أمره فرطا؟ ليس له ثبات أو حقيقة وليس فيه شيء من الجمال والكمال، فهذه الآية الشريفة حددت طريقين للإنسان وعليه أن يختار واحدة منهما والله عز وجل يقول: { وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ }الكهف/٢۹، والله عز وجل يقول: { فأصحابُ المَيْمَنَةِ مَا أصْحابُ المَيْمَنَةِ `وأصحابُ المَشْئمَةِ ما أصحابُ المَشْئمَةِ } الواقعة/٨-۹، فمِن أي الفئتين تحب أن تكون أنت؟؟ فإن الله عز وجل قد بيّن لك في هذه الآية الشريفة الطريقين بوضوح تام حتى لا تحتج غداً يوم القيامة وتقول لم يبين لي الطريق. نعم أحبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم { مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ } هؤلاء الثلة المؤمنة التي ما أرادت غير الله سبحانه وتعالى، فهل هناك ما يمكن أن نستبدله بالله عز وطل ؟!!! لا إله إلا الله ما بنا نرى الحق ولا نتبعه ونرى الباطل فنتبعه؟!!! إننا بهذا نخالف أمر الله عز وجل ورسوله الأكرم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أبهذا يأمرنا ديننا أم أننا خرجنا من الدين؟!!! يقول الحق سبحانه وتعالى: { الذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا } الكهف/١۰٤، اعلم أنك لا تكتسب الحال الصادق مع الله عز وجل إلا بصحبتك لهؤلاء القوم العظام أصحاب الأحوال الصادقة، فالذي عنده شيء يعطيه وفاقد الشيء لا يعطيه، ابحث لك عن مربٍ صادق ليربي نفسك على مطلب هؤلاء القوم وهو وجه الله الكريم العظيم، فإن جمال الدنيا والآخرة بصحبة هؤلاء الرجال هؤلاء القوم
درس {واصبر نفسك}
للشيخ الفقير الى الله تعالى سيدي الباسل رضي الله عنه وأرضاه
قال تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ باِلغَدَاةِ و العِشِيِّ يُريدونَ وَجْهَهُ ولا تعدُ عيْناكَ عنهُمْ تُرِيدُ زينَةَ الحَياةِ الدنيا ولا تُطِعْ مَن أغفلنا قَلبَهُ عَن ذِكْرِنا واتـــــَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أمْرُهُ فُرُطاً} الكهف/28
الحمد لله رب العالمين حمدا ًكثيرا ًطيبا ًمباركا ًفيه، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت مما شئت من شيء بعد، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، أنت أهل الثناء وأهل المجد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا مُعطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيـّه من بين خلقه وخليله، سيد العرب والعجم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته أفضل الأمم، الحمد لله الذي أنار الوجود بسيد الوجود.
أما بعد...
هذه الآية العظيمة حددت منهاجا ً للتقرب إلى الله عز وجل، وبدأ الله عز وجل الآية بالأمر بالصبر وحث النفس البشرية على الصبر في سيرها إلى الله سبحانه وتعالى مع أحبابه وأوليائه، وإن صبّرت نفسك معهم أنت منهم، وانظر إلى الهدف والنتيجة { يُريدونَ وَجْهَهُ } أي نعمة ومقام أعلى وأعظم من هذا؟ وعندما يقول الحق: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } أي احبسها مع الذين يدعون ربهم، يقول أهل الله عز وجل في التفسير و قيل الصلوات الخمس، فالغداة تعني الصبح والعشي تعني الظهر وما بعده، وقيل الصبح والعصر، وبعضهم قال أنها الصلاة التي كانوا يصلونها قبل فرض الصلاة وهي ركعتان بالغداة والعشي، قال ابن عطية: (... ويدخل في هذه الآية من يدعوا في غير صلاة، ومن يجمع لمذاكرة علم...).
وقد روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أنه قال: ( لذكر الله بالغداة والعشي أفضل من حطم السيوف في سبيل الله ومن إعطاء المال سحا ) وقيل {يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ } في جميع الأوقات وفي طرفي النهار والمراد بـ (هم) فقراء المؤمنين كعمار بن ياسر وصهيب الرومي وخباب وبلال. روي أن رؤساء الكفرة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ( لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ) وقالوا: ( إن ريح جبابهم تؤذينا ) فنزلت الآية. وروي أنه لما نزلت الآية خرج صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إليهم وجلس بينهم وقال: ( الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه ). وقيل لما نزلت في بيان أهل الصفة وكانوا نحو سبعمائة، ثم وصفهم الله تعالى بالإخلاص فقال: { يُريدونَ وَجْهَهُ } أي معرفة ذاته لا جنة ولا نجاة من نار، { ولا تعدُ عيْناكَ عنهُمْ } أي لا تجاوِزهم بنظرك إلى غيرهم ولا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة، { تُرِيدُ زينَةَ الحَياةِ الدنيا } أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء والدنيا. { ولا تُطِعْ } في تنحية الفقراء عن مجلسك { مَن أغفلنا قَلبَهُ عَن ذِكْرِنا } أي جعلناه غافلا عن الذكر وعن الاستعداد له، كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء عن مجلسك فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقات وفي تنبيه على أن الباعث على ذلك الدعاء غفلة قلبية عن جناب الله سبحانه وتعالى حتى خفي عليه أن الشرف إنما هو بتحلية القلب بالفضائل لا بتحلية الجسد بالملابس والأكل، { واتـــــَّبَعَ هَواهُ } ما تهواه نفسه { وَكانَ أمْرُهُ فُرُطاً} ضياعا ًوهلاكاً وهو من التفريط والتضييع أو من الإفراط والإسراف، فإن الغفلة عن ذكر الله تعالى تؤدي إلى اتباع الهوى الذي يؤدي إلى التباعد عن الحق والصواب. وفي الآية حثٌ على صحبة الفقراء والمكوث معهم، ففي صحبتهم أسرار كبيرة ومواهب غزيرة، إذ المسلم الصادق بصحبة الفقراء السائرين إلى الله عز وجل يكتسب آداب سيره إلى الله عز و جل، ويقع له التهذيب والتأديب حتى يتأهل لحضرة التقريب، فبصحبة هؤلاء القوم تدوم حياة الطريق ويصل العبد إلى معالم الطريق. وعندما يقول الحق: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } قال القشيري: ( ... لم يقل واصبر قلبك لأن قلبه مع الحق تعالى فأمره بصحبة الفقراء جهرا ًبجهر واستخلص قلبه لنفسه سرا ًبسر... ). قال الورتجبي: ( ...اصبر نفسك مع هؤلاء الفقراء العاشقين لجمالي المشتاقين إلى جلالي، الذين هم في جميع الأوقات يسألون متى لقاء وجهي الكريم، ويريدون أن يطيروا بجناح المحبة إلى عالم وصلي حتى يكونوا متسلين بصحبتك عن مقام الوصال، وفي رؤيتهم لك رؤية ذلك الجمال... ). { يُريدونَ وَجْهَهُ } بين أن دعائهم وسؤالهم إنما هو رؤيته ولقاؤه شوقاً إليه ومحبة فيه من غير تعلق بغيره أو شغل بسواه بل همهم الله عز وجل لا غيره، قيل في الإحياء: "مَن يعمل اتقاءً من النار خوفا، أو رغبة في الجنة رجاء، فهو من جملة النيات الصحيحة لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة".
ويقول أحد الصالحين: " الإخلاص ألاّ يريد صاحبه عوضا ًعليه في الدارين" وهذه إشارة لإخلاص الصديقين.
{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } إذا كان ذلك أمر وحث من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم على أن يصبر ويصبّر نفسه مع المؤمنين الصادقين فكيف يكون الحال بنا؟ كيف يجب أن نصبّر أنفسنا مع الله عز وجل وأهل الله عز وجل وأوليائه العظام؟ والشاعر يقول:
والصبر يحمد في المواطن كلها
إلا عليك فإنه لا يُحمَــــــــــــــدُ
النفس هي التي تأبى ذلك، تأبى السير والصبر لله سبحانه وتعالى في بدايتها ولذلك يجب مجاهدتها، لماذا؟ لأن الله عز وجل كما قلنا جعل في هذه الآية منهاجا ًوطريقا ًوغاية ونتيجة فيجب على النفس والعقل أن يدركا شيئاً من هذا الأمر لكي تسير النفس إلى ذلك، ومع أن الصبر مراتب وفي كل المراتب هو خير، فمثلا الصبر على المرض والبلاء والصبر على المصيبة والصبر على الطاعة والصبر على البعد عن المعصية، فكيف بالصبر مع حبيبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وأحبائه على طريق عبادة الله عز وجل ومعرفته ابتغاء وجه الله الكريم؟ فهنا يخاطبنا الله عز وجل بأنه يجب علينا أن نصبّر أنفسنا مع أحبائه لأنه مَن صبر معهم فهو منهم أما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) فكيف بالمصبِّر نفسه على ذلك؟ إياك أن تنازعك نفسك على غير ذلك فإن في ذلك الهلاك لك ولنفسك التي نازعتك، يقول الله عز وجل { إنّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونُ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } الزمر/١۰. والنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: ( الصبر نصف الإيمان ) إذا كان الصابرون بشكل عام يوَفــَّوْنَ أجورهم بغير حساب فكيف بأعظم الصبر وأحبه إلى الله عز وجل وهو في الصبر وتصبير النفس في سيرها لله عز وجل ابتغاء وجهه سبحانه وتعالى؟! كيف ستكون محاسبة الله عز وجل لهم وتوفية أجورهم؟! طبعا نفسك سترفض السير لله عز وجل لأن في ذلك قمع لشهواتها، فهي ستعارض ذلك لأنها لا تدرك عظمة لقاء الله سبحانه وتعالى. إن ما يجب عليك معرفته هو إنها سترفض كل ما يخالف هواها وميلها إلى ما تشتهيه وتلذذ به، ومن هنا وجب على عقلك أن يدرك حقيقة وجودك ولما وجودك في هذا الوجود؟ وأن هذه الآية منهاج لتنفذ هذا الأمر وتعلم حقيقة وجودك، إذا أدرك العقل ذلك فَرَضَ سلطانه على النفس وعندئذ سيسهل عليها أمر السير إلى الله عز وجل مع المجاهدة، وعندئذ سيتذوق القلب حلاوة هذا الحال. ثم يقول الله عز وجل: { مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ باِلغَدَاةِ و العِشِيِّ } كلمة مع { الذينَ } يكفيك بهذا شرفا ًوأي شرف! يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ( المرء مع من أحب) فهكذا كان حال الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، صبّروا نفوسهم في بدايتها وجاهدوها في متابعة الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه وبعدها أصبحت نفوسهم هي تشتاق لذلك. وجعلوا نفوسهم في وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومصداقا ً للحديث الشريف: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا ً لما جئتُ به ) فعندما تسمع هذه الآية { مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ } ألا ترى فيها غاية الجمال وقمة الكمال؟! يدعون من؟؟ ربهم الذي خلقهم وهو أدرى بهم، والدعاء هنا شامل لكل أنواع العبادة، فهم يدعون ويصلون ويلجئون ويطلبون ويسألون ربهم أن يجعلهم له لا لغيره، واعلم أنه لا يكون في هذا الطريق إلا من رضي الله تعالى عنه، إنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي أي يومهم كله ليلهم ونهارهم مع الله عز وجل، لا تفتر ألسنتهم عن ذكره عز وجل، ولا تخرج قلوبهم من حضرته، ويفيض على أرواحهم من فيض تجلياته، فصبّر نفسك كي يصبح حالك كحالهم، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: ( من أحبَّ قوما ً حُشِر معهم ).
اعلم أنه إذا ساقك الله عز وجل إلى قوم يحبهم فهذه علامة على أنه يريدك ويحبك و إلا فإنه سبحانه وتعالى لا يسوق لأحبته إلا من أراد أن يجعله منهم. فهذه بشرى عظيمة من الله عز وجل لك، أفبعد ذلك لا تصبّر نفسك لأجل هذا الأمر العظيم؟؟؟ وانظر... كل ذلك لماذا؟ وماذا يريدون؟ إنهم لا يريدون إلا وجه الله العظيم وهذا أعظم طلب وأعظم سؤال وأعظم دعاء، ولا يطلب ذلك إلا أصحاب الهمم العالية والقلوب الممتلئة حبا ًوشغفا ًبالله عز وجل، فإرادتهم وعزمهم لا تميلان عن ذلك ولا يريدون غير الله عز وجل، فهؤلاء القوم من أعلى فئة من أمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لعلو مطلبهم وفناء أنفسهم بذلك، فهم لا يخطر في قلوبهم سواه سبحانه وتعالى، لا جنة ولا نار ولا غير ذلك، كما كانت تقول العابدة الزاهدة السيدة رابعة العدوية رضي الله تعالى عنها: ( اللهم إن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك خوفا ًمن نارك فأدخلني فيها، وإن كنت أعبدك طمعاً في النظر إلى وجهك الكريم يا كريم فلا تحرمني من ذلك وأكرمني بذلك ). وكان من دعاء الصالحين ( اللهم لا تحرمنا النظر على وجهك
الكريم يا كريم ). والحق عز وجل يقول: { وُجُوهٌ يَوْمئِذٍ ناضِرَةٌ } القيامة/٢٢. وصدق الشاعر حيث قال
فما مقصودهم جنات عدن ولا الحور الحسان ولا الخياما
سوى نظر الجليل وذا مناهم وذلك مقصد القوم الكراما
نعم أحبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إذا كان هؤلاء القوم مقصدهم الله عز وجل أفلا نقصدهم بنفوسنا وعقولنا وقلوبنا وأرواحنا وكل شيء فينا؟ وعلى هذا كما قلنا أن تصبّر نفسك بالمجاهدة وبإدراك العقل لعلو هذا الأمر، نعم يجب أن نجعل أنفسنا تطيع هؤلاء القوم وإلا لكانت طاعته عكس ذلك على الإطلاق، فأنت الأمر بيدك إما أن تسير مع هؤلاء القوم لله عز وجل ومع الله عز وجل وبالله عز وجل وإما أن تسير مع الشيطان وحب الدنيا وشهواتها، أنظر وفكر ثم اختار واعلم أنه ما لم يكن عندك عزم على جمع إرادتك للسير لله عز وجل فإن إرادتك ستكون مشتتة، والإرادة المشتتة لا تأتي بخير. فإذاً هؤلاء يريدون وجهه عز وجل فكيف إرادة الله عز وجل لهم مع العلم أنه من أعظم نعمة أنعمها عليهم أن أقامهم في هذا المقام، فمقامك حيث أقامك، ولكن نقول كيف ستكون إرادة وإقبال الله عز وجل عليهم وإليهم والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: ( مَن تقرّب إلي شبرا ً تقرّبت إليه باعا ًومَن تقرّب إلي باعا ً تقرّبت منه باعا ًومَن أتاني يمشي أتيته هرولة ). إن أعظم نعمة ينعمها الله عز وجل على أهل الجنة أن يكرمهم برؤية وجهه الكريم، فليس هناك نعمة أعظم منها. أحبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم مَن أراد الله عز وجل أرادَه الله عز وجل، ومَن سعى لدخول حضرة الله عز وجل بصدق أدخله الله عز وجل فيها. ويقول الله سبحانه وتعالى: { ولا تعدُ عيْناكَ عنهُمْ تُرِيدُ زينَةَ الحَياةِ الدنيا } أحبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إياك أن تعدُ عيناك عنهم فإن الروح توجد حيث توجد الفكرة، وكم من نظرة كوّنت فكرة؟! تريد زينة الحياة الدنيا إذا كوّنت وحوّلت إرادتك إلى طريق مغايرة يكون فيها هلاكك فإنه لا ينجو من فتنة الدنيا وزينتها إلا المتمسك بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فإن النفس تتزين بزينة الدنيا والله عز وجل يقول: { زُيِّنَ للناسِ حُبُّ الشهواتِ مِنَ النساءِ و البَنين َوالقناطيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذهَبِ والفِضَّةِ والخيلِ المُسَوَّمَةِ والأنعامِ والحَرْثِ ذلكَ مَتَاعُ الحياةِ الدنيا واللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ
والله عز وجل في عدة آيات حذرنا من هذه الدنيا الفانية {وَمَا الحَياةُ الدُّنْيا إلا مَتَاعُ الغُرُورِ} آل عمران/١٨٥، ويقول الله عز وجل أيضا: {إنَّمَا الحياةُ الدُّنيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وزِينَةٌ وتَفَاخُرُ بينَكُم وتكاثُرٌ في الأمْوالِ والأوْلادِ} الحديد/٢۰، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: (حب الدنيا رأس كل خطيئة ) فإن خوف النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم على هذه الأمة من بعده كان مِن تزيُّن الدنيا لأصحابه وأمته وأن يشتغلوا بها وتبعدهم الدنيا عن الدين. فإن عَدَت عيناك مال قلبك إلى ما تعدُ عليه عيناك من زينة الحياة الدنيا ورفضت زينة الحياة الآخرة والقرب من الله عز وجل، والله الدنيا بما فيها من لذة لا تعدل لحظة من لحظات القرب من الله عز وجل ومن حبيبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبدءوا يتذوقوا معنى الآيات لقربهم من الله عز وجل وهو يقول: {وَ إِذَا سَألـَكَ عِبَادِي عَنـِّي فَأِنـِّي قَرِيبٌ} البقرة/ ١٨٦، عاشوا حياة القرب من الله عز وجل التي ليس بعدها حياة.
ودائما قل: "اللهم سيرني كما تحب وليس كما أحب، وإن سيرتني كما أحب فاجعل ما أحب فيما تحب، واجعلني عبدك المحب لك ولحبيبك وأحبابك والطريق المؤدية إلى حبك، وسيرني كما تريد وليس كما أريد، وإن سيرتني كما أريد فاجعل ما أريد فيما تريد يا الله". ويقول الحق تبارك وتعالى: {ولا تُطِعْ مَن أغفلنا قَلبَهُ عَن ذِكْرِنا واتـــــَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أمْرُهُ فُرُطاً}هذا هو الطريق الثاني وهذه الدنيا وسيرك بها فعندما يقول الحق سبحانه وتعالى ولا تطع اعلم أنه لا يأمرك الله إلا بكل خير وما هو مصلحة لك فالقلوب اثنان إما قلب واصل وإما قلب غافل يقول الحق سبحانه وتعالى: { إنًَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ } الكهف/٥٧، إياك أن تطع الغافل عن الله عز وجل فإن أطعته دخلت في دائرته فيجب أن تكون من أشد الناس بعدا ًعن ذلك الغافل وأن لا تنقاد له بوقت من الأوقات أو بحال من الأحوال، فإن الإنسان الغافل بعيد عن الله سبحانه وتعالى، بعيد من رحمته قريب من غضبه، يعيش بهذه الدنيا غارقا بنفسه وشهواته لا يردعه رادع، لا يفكر بالجنة ولا بالنار، همه لذائذ نفسه وإمتاعها كما قال الله تعالى: { إنْ هُم إلا كَالأنعامِ بلْ هُمْ أضلُّ سَبِيلا ً} الفرقان/٤٤، هذا الإنسان الذي بعد عن إنسانيته لأن الإنسانية تكون بالعقل والقلب فإن كان عقله محجوبا ًوقلبه غافل فأين إنسانيته؟! ولذلك فقلبك إما أن يكون روضة من رياض المعرفة ومشرقة فيه شمس الحقيقة وإما أن يكون قلبك البيت الخرب مربض للشيطان وأعوانه، فبمجرد أنه غفل عن ذكر الله سبحانه وتعالى هذا معناه أنه غافل عن الله عز وجل بالكلية، فمَن أحب شيء أكثر من ذكره. إذا هذا الإنسان نفسه غافلة وعقله محجوب وغافل وقلبه غافل وفاسد وروحه فاسدة أيضا وهذا مصداقا ًلقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ( ألا إنّ في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )، إذا الجسد بما يحوي تابع لهذه المضغة، يسير كيف تسير، يكون كيف تكون، وعندما يقول الحق سبحانه وتعالى: { أغفلنا }هذا قمة في المقت الإلهي لأنه علم أن هذا القلب لا يصلح لحضرة الله عز وجل فقال أغفلنا، فهذا الإنسان الذي لا يذكر ولا يتذكر اسم الله سبحانه وتعالى فكيف يكون مع الله عز وجل؟! { واتـــــَّبَعَ هَواهُ } وهذه قمة الجهل والبعد عن الله عز وجل إتباع الهوى، فإنك إذا أتبَعْتَ نفسك هواها قادتك إلى مزالق الشيطان وإلى الفسق والضلال والبعد عن طريق الحق والصواب والهدْي الصحيح، ومن هنا أمرنا الحق عز وجل بعدم اتباع الهوى ووضع على ذلك الأجر العظيم فقال تعالى: { وأمّا مَن خافَ مَقَامَ ربِّهِ ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى` فإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى } النازعات/٤۰-٤١، وأما من لم ينهَ النفس عن الهوى وغرق به فإن جهنم هي المأوى، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) وليس تبعا لما تقرره نفسه أو يقرره لها الشيطان أو يكون الهوى في الدنيا وشهواتها. المَئابِ } آل عمران/١[/b]٤، لا تستبدل هؤلاء القوم بهذه الدنيا الفانية وشهواتها،
{ وَكانَ أمْرُهُ فُرُطاً}ومن يقرر؟ الله عز وجل أن هذا الإنسان البعيد عن كل معنى جميل وأصيل أمره من بدايته إلى نهايته فارط. وماذا نفهم من كلمة { فُرُطاً}؟ { كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةِ أنْكاثاً } النحل/۹٢، فأنت أيها المسلم كيف تطع من أغفل الله عز وجل قلبه عنه وعن ذكره ومتبع لهواه ونفسه وشيطانه وكان أمره فرطا؟ ليس له ثبات أو حقيقة وليس فيه شيء من الجمال والكمال، فهذه الآية الشريفة حددت طريقين للإنسان وعليه أن يختار واحدة منهما والله عز وجل يقول: { وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ }الكهف/٢۹، والله عز وجل يقول: { فأصحابُ المَيْمَنَةِ مَا أصْحابُ المَيْمَنَةِ `وأصحابُ المَشْئمَةِ ما أصحابُ المَشْئمَةِ } الواقعة/٨-۹، فمِن أي الفئتين تحب أن تكون أنت؟؟ فإن الله عز وجل قد بيّن لك في هذه الآية الشريفة الطريقين بوضوح تام حتى لا تحتج غداً يوم القيامة وتقول لم يبين لي الطريق. نعم أحبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم { مَعَ الذينَ يَدْعُونَ رَبـــــَّـهُمْ } هؤلاء الثلة المؤمنة التي ما أرادت غير الله سبحانه وتعالى، فهل هناك ما يمكن أن نستبدله بالله عز وطل ؟!!! لا إله إلا الله ما بنا نرى الحق ولا نتبعه ونرى الباطل فنتبعه؟!!! إننا بهذا نخالف أمر الله عز وجل ورسوله الأكرم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أبهذا يأمرنا ديننا أم أننا خرجنا من الدين؟!!! يقول الحق سبحانه وتعالى: { الذينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا } الكهف/١۰٤، اعلم أنك لا تكتسب الحال الصادق مع الله عز وجل إلا بصحبتك لهؤلاء القوم العظام أصحاب الأحوال الصادقة، فالذي عنده شيء يعطيه وفاقد الشيء لا يعطيه، ابحث لك عن مربٍ صادق ليربي نفسك على مطلب هؤلاء القوم وهو وجه الله الكريم العظيم، فإن جمال الدنيا والآخرة بصحبة هؤلاء الرجال هؤلاء القوم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى